فصل: ذكر اختلاف أولاد ناصر الدولة وموت أبيهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر القبض على ناصر الدولة بن حمدان:

في هذه السنة قبض أبو تغلب بن ناصر الدولة على أبيه، وحبسه في القلعة، ليلة الست لست بقين من جمادى الأولى.
وكان سبب قبضه أنه كان قد كبر وساءت أخلاقه، وضيق على أولاده وأصحابه، وخالفهم في أغراضهم للمصلحة، فضجروا منه.
وكان فيما خالفهم فيه أنه لما مات معز الدولة عزم أولاده على قصد العراق وأخذه من بختيار، فنهاهم وقال لهم: إن معز الدولة قد خلف مالاً يستظهر به ابنه عليكم، فاصبروا حتى يفرق ما عنده من المال ثم اقصدوه وفرقوا الأموال، فإنكم تظفرون به لا محالة؛ فوثب عليه أبو تغلب، فقبضه، ورفعه إلى القلعة، ووكل به من يخدمه ويقوم بحاجاته وما يحتاج إليه.
فلما فعل ذلك خالفه بعض إخوته، وانتشر أمرهم الذي كان يجمعهم، وصار قصاراهم حفظ ما في أيديهم، واحتاج أبو تغلب إلى مداراة عز الدولة بختيار، وتجديد عقد الضمان ليحتج بذلك على إخوته، ومن خالفه، فضمنه البلاد بألف ألف مائتي ألف درهم كل سنة.

.ذكر من مات من الملوك:

مات فيها وشمكير بن زيار، كما ذكرناه؛ ومعز الدولة، وقد ذكرناه؛ والحسن بن الفيرزان، وكافور الإخشيدي، ونقفور ملك الروم، وأبو علي محمد بن إلياس صاحب كرمان، وسيف الدولة بن حمدان.
فأما سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان بن حمدون التغلبي فإنه مات بحلب في صفر، وحمل تابوته إلى ميافارقين فدفن بها، وكانت علته الفالج، وقيل عسر البول، وكان مولده في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثمائة، وكان جواداً، كريماً، شجاعاً، وأخباره مشهورة في ذلك، وكان يقول الشعر، فمن شعره في أخيه ناصر الدولة:
وهبت لك العليا وقد كنت أهلها ** وقلت لهم بيني وبين أخي فرق

وما كان بي عنها نكولٌ وإنما ** تجاوزت عن حقّي فتمّ لك الحقّ

أما كنت ترضى أن أكون مصلّياً ** إذا كنت أرضى أن يكون لك السّبق

وله أيضاً:
قد جرى في دمعه دمه ** فإلى كم أنت تظلمه

ردّ عنه الطّرف منك فقد ** جرحته منك أسهمه

كيف يستطيع التجلّد من ** خطرات الوهم تؤلمه

ولما توفي سيف الدولة ملك بلاده بعده ابنه أبو المعالي شريف.
وأما أبو علي بن إلياس فسيرد ذكر موته سنة سبع وخمسين.
وأما كافور فإنه كان صاحب مصر، وكان من موالي الإخشيد محمد ابن طغج، واستولى على مصر ودمشق بعد موت الإخشيد لصغر أولاده، وكان خصياً أسود، وللمتنبي فيه مديح وهجو، وكان قصده إلى مصر، وخبره معه مشهور، ولما دفن كتب على قبره:
انظر إلى غير الأيّام ما صنعت ** أفنت أناساً بها كانوا وقد فنيت

دنياهم ضحكت أيّام دولتهم ** حتّى إذا انقرضوا ناحت لهم وبكت

وفيها توفي أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد الأصبهاني الأموي، وهو من ولد محمد بن مروان بن الحكم الأموي، وكان شيعياً، وهذا من العجب، وهو صاحب كتاب الأغاني وغيره.
وفيها توفي يوسف بن عمر بن أبي عمر القاضي، وكان مولده سنة خمس وثلاثمائة، وولي قضاء بغداد في حياة أبيه وبعده.
وفيه توفي أبو الحسن أحمد بن محمد بن سالم صاحب سهل التستري رضي الله عنه ثم دخلت:

.سنة سبع وخمسين وثلاثمائة:

.ذكر عصيان حبشي ابن معز الدولة على بختيار بالبصرة وأخذه قهراً:

في هذه السنة عصى حبشي بن معز الدولة على أخيه بختيار، وكان بالبصرة لما مات والده، فحسن له من عنده من أصحابه الاستبداد بالبصرة، وذكروا له أن أخاه بختيار لا يقدر على قصده، فشرع في ذلك، فانتهى الخبر إلى أخيه، فسير وزيره أبا الفضل العباس بن الحسين إليه، وأمره بأخذه كيف أمكن، فأظهر الوزير أنه يريد الانحدار إلى الأهواز.
ولما بلغ واسط أقام بها ليصلح أمرها، وكتب إلى حبشي يعده أنه يسلم إليه البصرة سلماً، ويصالحها عليها، ويقول له: إنني قد لزمني مال على الوزارة، ولا بد من مساعدتي، فأنفذ إليه حبشي مائتي ألف درهم، وتيقن حصول البصرة له، فوصلها هو وعسكر الأهواز لميعادهم، فلم يتمكن حبشي من إصلاح شأنه وما يحتاج إليه، فظفروا به وأخذوه أسيراً وحبسوه برامهرمز، فأرسل عمه ركن الدولة وخلصه فسار إلى عضد الدولة، فأقطعه إقطاعاً وافراً، وأقام عنده إلى أن مات في آخر سنة تسع وستين وثلاثمائة، وأخذ الوزير من أمواله بالبصرة شيئاً كثيراً، ومن جملة ما أخذ له خمسة عشر ألف مجلد سوى الأجزاء والمسرس وما ليس له جلد.

.ذكر البيعة لمحمد بن المستكفي:

في هذه السنة ظهر ببغداد، بين الخاص والعام، دعوة إلى رجل من أهل البيت، اسمه محمد بن عبدالله، وقيل إنه الدجال الذي وعد به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويجدد ما عفا من أمور الدين، فمن كان من أهل السنة قيل له: إنه عباسي، ومن كان أهل الشيعة قيل له: إنه علوي، فكثرت الدعاة إليه، والبيعة له.
وكان الرجل بمصر، وقد أكرمه كافور الإخشيدي وأحسن إليه، وكان في جملة من بايع له سبكتكين العجمي، وهو من أكابر قواد معز الدولة، وكان يتشيع، فظنه علوياً، وكتب إليه يستدعيه من مصر، فسار إلى الأنبار، وخرج سبكتكين إلى طريق الفرات، وكان يتولى حمايته، فلقي ابن المستكفي، وترجل له وخدمه، وأخذه وعاد إلى بغداد، وهو لا يشك في حصول الأمر له.
ثم ظهر لسبكتكين أن الرجل عباسيٌ، فعاد عن ذلك الرأي، ففطن ابن المستكفي وخاف هو وأصحابه، فهربوا وتفرقوا، فأخذ ابن المستكفي ومعه أخ له، وأحضر عند بختيار، فأعطاهما الأمان، ثم إن المطيع تسلمه من بختيار، فجدع أنفه، ثم خفي خبره.

.ذكر استيلاء عضد الدولة على كرمان:

في هذه السنة ملك عضد الدولة بلاد كرمان.
وكان سبب ذلك أن أبا علي بن إلياس كان صاحبها مدة طويلة، على ما ذكرناه، ثم إنه أصابه فالج خاف منه على نفسه، فجمع أكابر أولاده، وهم ثلاثة: إليسع وإلياس وسليمان، فاعتذر إلى إليسع من جفوة كانت منه له قديماً، وولاه الأمر، ثم بعده أخاه إلياس، وأمر سليمان بالعود إلى بلادهم، وهي بلاد الصغد، وأمره بأخذ أموال له هناك، وقصد إبعاده عن إليسع لعدواة كانت بينهما.
فسار من عند أبيه، واستولى على السيرجان، فلما بلغ أباه ذلك أنفذ إليه إليسع في جيش، وأمره بمحاربته وإجلائه عن البلاد، ولم يمكنه من قصد الصغد إن طلب ذلك، فسار إليه، وحصره، واستظهر عليه، فلما رأى سليمان ذلك جمع أمواله وسار نحو خراسان، واستقر أمر إليسع بالسيرجان وملكها وأمر بنهبها، فنهبت، فسأله القاضي وأعيان البلد العفو عنهم، فعفا.
ثم إن جماعة من أصحاب والده خافوه، فسعوا به إلى أبيه، فقبض عليه وسجنه في قلعة له، فمشت والدته إلى والدة أخيه إلياس وقالت لها: إن صاحبها قد فسخ ما كان عقده لولدي، وبعده يفعل بولدك مثله، ويخرج الملك عن آل إلياس، والرأي أن تساعديني على تخليص ولدي ليعود الأمر إلى ما كان عليه.
وكان والده أبو علي تأخذه غشية في بعض الأوقات، فيمكث زماناً طويلاً لا يعقل، فاتفقت المرأتان وجمعتا الجواري في وقت غشيته، وأخرجن إليسع من حبسه ودلينه من ظهر القلعة إلى الأرض، فكسر قيده، وقصد العسكر، فاستبشروا به وأطاعوه، وهرب منه من كان أفسد حاله مع أبيه، وأخذ بعضهم، ونجا بعضهم؛ وتقدم إلى القلعة ليحصرها.
فلما أفاق والده وعرف الصورة راسل ولده، وسأله أن يكف عنه ويؤمنه على ماله وأهله حتى يسلم إليه القلعة وجميع أعمال كرمان، ويرحل إلى خراسان، ويكون عوناً له هناك، فأجابه إلى ذلك، وسلم إليه القلعة وكثيراً من المال، وأخذ معه ما أراد، وسار إلى خراسان وقصد بخارى، فأكرمه الأمير منصور بن نوح، وأحسن إليه وقربه منه، فحمل منصوراً على تجهيز العساكر إلى الري وقصد بني بويه، على ما ذكرناه، وأقام عنده إلى أن توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة بعلة الفالج، على ما ذكرناه.
وكان ابنه سليمان ببخارى أيضاً، وأما إليسع فإنه صفت له كرمان، فحمله ترف الشباب وجهله على مغالبة عضد الدولة على بعض حدود عمله، وأتاه جماعة من أصحاب عضد الدولة وأحسن إليهم، ثم عاد بعضهم إلى عضد الدولة، فاتهم إليسع الباقين، فعاقبهم، ومثل بهم.
ثم إن جماعة من أصحابه استأمنوا إلى عضد الدولة، فأحسن إليهم وأكرمهم ووصلهم، فلما رأى أصحابه تباعد ما بين الحالين تألبوا عليه، وفارقوه متسللين إلى عضد الدولة، وأتاه منهم في دفعة واحدة نحو ألف رجل من وجوه أصحابه، فبقي في خاصته، وفارقه معظم عسكره.
فلما رأى ذلك أخذ أمواله وأهله وسار بهم نحو بخارى لا يلوي على شيء، وسار عضد الدولة إلى كرمان فاستولى عليها وملكها وأخذ ما بها من أموال آل إلياس، وكان ذلك في شهر رمضان، وأقطعها ولده أبا الفوارس، وهو الذي لقب بعد ذلك شرف الدولة، وملك العراق، واستخلف عليها كورتكين ابن جستان، وعاد إلى فارس وراسله صاحب سجستان، وخطب له بها، وكان هذا أيضاً من الوهن على بني سامان ومما طرق الطمع فيهم.
وأما إليسع فإنه لما وصل إلى بخارى أكرمه وأحسن إليه، وصار يذم أهل سامان في قعودهم عن نصره، وإعادته إلى ملكه، فنفي عن بخارى إلى خوارزم.
وبلغ أبا علي بن سيمجور خبره، فقصد ماله وأثقاله، وكان خلفها ببعض نواحي خراسان، فاستولى على ذلك جميعه، وأصاب إليسع رمد شديد بخوارزم، فأقلقه، فحمله الضجر وعدم السعادة إلى أن قلع عينه الرمدة بيده، وكان ذلك سبب هلاكه، ولم يعد لآل إلياس بكرمان دولة، وكان الذي أصابه لشؤم عصيان والده وثمرة عقوقه.

.ذكر قتل أبي فراس بن حمدان:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، قتل أبو فراس بن أبي العلاء سعيد بن حمدان.
وسبب ذلك أنه كان مقيماً بحمص، فجرى بينه وبين أي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان وحشة، فطلبه أبو المعالي، فانحاز أبو فراس إلى صدد، وهي قرية في طرف البرية عند حمص، فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم، وسيرهم في طلبه مع قرعويه، فأدركه بصدد، فكبسوه، فاستأمن أصحابه، واختلط هو بمن استأمن منهم، فقال قرعويه لغلام له: اقتله، فقتله وأخذ رأسه وتركت جثته في البرية، حتى دفنها بعض الأعراب.
وأبو فراس هو خال أبي المعالي بن سيف الدولة، ولقد صدق من قال: إن الملك عقيم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، منتصف شعبان، مات المتقي لله إبراهيم بن المقتدر في داره، ودفن فيها.
وفيها، في ذي القعدة، وصلت سرية كثيرة من الروم إلى إنطاكية فقتلوا في سوادها وغنموا، وسبقوا اثني عشر ألفاً من المسلمين.
وفيها كان بين هبة الرفعاي وبني أسد بن وزير الغبري حرب، فاستمدت أسد خزر اليشكري الذي مع عمران بن شاهين، صاحب البطائح، وأوقع بهبة، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة وهزمه، واستولى على جنبلا وقسين من أرض العراق، فسار سبكتكين العجمي إلى خزر، وضيق عليه، فمضى إلى البصرة واستأمن إلى الوزير أبي الفضل.
وفيها عمل أهل بغداد يوم عاشوراء وغدير خم، كما جرت به عادتهم من إظهار الحزن يوم عاشوراء، والسرور يوم الغدير؛ وتوفي علي بن بندار ابن الحسين أبو الحسن الصوفي المعروف بالصيرفي النيسابوري. ثم دخلت:

.سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة:

.ذكر ملك المعز العلوي مصر:

في هذه السنة سير المعز لدين الله أبو تميم معد بن إسماعيل المنصور بالله القائد أبا الحسن جوهراً، غلام والده المنصور، وهو رومي، في جيش كثيف إلى الديار المصرية، فاستولى عليها.
وكان سبب ذلك أنه لما مات كافور الإخشيدي، صاحب مصر، اختلفت القلوب فيها، ووقع بها غلاء شديد، حتى بلغ الخبز كل رطل بدرهمين، والحنطة كل ويبة بدينار وسدس مصري، فلما بلغ الخبر بهذه الأحوال إلى المعز، وهو بإفريقية، سير جوهراً إليها، فلما اتصل خبر مسيره إلى العساكر الإخشيدية بمصر هربوا عنها جميعهم قبل وصوله.
ثم إنه قدمها سابع عشر شعبان، وأقيمت الدعوة للمعز بمصر في الجامع العتيق في شوال، وكان الخطيب أبا محمد عبدالله بن الحسين الشمشاطي.
وفي جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين سار جوهر إلى جامع ابن طولون، وأمر المؤذن فأذن بحي على خير العمل، وهو أول ما أذن بمصر، ثم أذن بعده في الجامع العتيق، وجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم، ولما استقر جوهر بمصر شرع في بناء القاهرة.

.ذكر ملك عسكر المعز دمشق وغيرها من بلاد الشام:

لما استقر جوهر بمصر، وثبت قدمه، سير جعفر بن فلاح الكتامي إلى الشام في جمع كبير، فبلغ الرملة، وبها أبو محمد الحسن بن عبدالله بن طغج، فقاتله في ذي الحجة من السنة، وجرت بينهما حروب كان الظفر فيها لجعفر ابن فلاح، وأسر ابن طغج وغيره من القواد فسيرهم إلى جوهر، وسيرهم جوهر إلى المعز بإفريقية، ودخل ابن فلاح البلد عنوةً، فقتل كثيراً من أهله، ثم أمن من بقي، وجبى الخراج وسار إلى طبرية، فرأى ابن ملهم قد أقام الدعوة للمعز لدين الله، فسار عنها إلى دمشق، فقاتله أهلها، فظفر بهم وملك البلد، ونهب بعضه وكف عن الباقي، وأقام الخطبة للمعز يوم الجمعة لأيام خلت من المحرم سنة تسع وخمسين وقطعت الخطبة العباسية.
وكان بدمشق الشريف أبو القاسم بن أبي يعلى الهاشمي، وكان جليل القدر، نافذ الحكم في أهلها، فجمع أحداثها ومن يريد الفتنة، فثار بهم في الجمعة الثانية، وأبطل الخطبة للمعز لدين الله وأعاد خطبة المطيع لله، ولبس السواد وعاد إلى داره، فقاتله جعفر بن فلاح ومن معه قتالاً شديداً، وصبر أهل دمشق، ثم افترقوا آخر النهار، فلما كان الغد تزاحف الفريقان واقتتلوا ونشبت الحرب بينهما، وكثر القتلى من الجانبين ودام القتال، فعاد عسكر دمشق منهزمين، والشريف ابن أبي يعلى مقيم على باب البلد يحرض الناس على القتال، ويأمرهم بالصبر.
وواصل المغاربة الحملات على الدماشقة حتى ألجأوهم إلى باب البلد، ووصل المغاربة إلى قصر حجاج، ونهبوا ما وجدوا، فلما رأى ابن أبي يعلى الهاشمي والأحداث لقي الناس من المغاربة خرجوا من البلد ليلاً، فأصبح الناس حيارى، فدخل الشريف الجعفري، وكان خرج من البلد إلى جعفر بن فلاح في الصلح، فأعاده وأمره بتسكين الناس وتطييب قلوبهم، ووعدهم بالجميل، ففعل ما أمره، وتقدم إلى الجند والعامة بلزوم منازلهم، وأن لا يخرجوا منها إلى أن يدخل جعفر بن فلاح البلد ويطوف فيه ويعود إلى عسكره، ففعلوا ذلك.
فلما دخل المغاربة البلد عاثوا فيه، ونهبوا قطراً منه، فثار الناس وحملوا عليهم، ووضعوا السيف فيهم، فقتلوا منهم جماعة، وشرعوا في تحصين البلد وحفر الخنادق، وعزموا على اصطلاء الحرب، وبذل النفوس في الحفظ، وأحجمت المغاربة عنهم، ومشى الناس إلى الشريف أبي القاسم بن أبي يعلى، فطلبوا منه أن يسعى فيما يعود بصلاح الحال، ففعل، ودبر الحال إلى أن تقرر الصلح يوم الخميس لست عشرة خلت من ذي الحجة سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وكان الحريق قد أتى على عدة كثيرة من الدور وقت الحرب.
ودخل صاحب الشرطة جعفر بن فلاح البلد يوم الجمعة فصلى مع الناس وسكنهم وطيب قلوبهم، وقبض على جماعة من الأحداث في المحرم سنة ستين وثلاثمائة، وقبض على الشريف أبي القاسم بن أبي يعلى الهاشمي المذكور، وسيره إلى مصر، واستقر أمر دمشق.
وكان ينبغي أن يؤخر ملك ابن فلاح دمشق إلى آخر السنة، وإنما قدمته ليتصل خبر المغاربة بعضه ببعض.

.ذكر اختلاف أولاد ناصر الدولة وموت أبيهم:

كان سبب إختلاف أولاد ناصر الدولة أنه كان قد أقطع ولده حمدان مدينة الرحبة وماردين وغيرهما وكان أبو تغلب وأبو البركات وأختهما جميلة أولاد ناصر الدولة من زوجته فاطمة بنت أحمد الكردية، وكانت مالكة أمر ناصر الدولة، فاتفقت مع ابنها أبي تغلب، وقبضوا على ناصر الدولة، على ما ذكرناه، فابتدأ ناصر الدولة يدبر في القبض عليهم، فكاتب ابنه حمدان يستدعيه ليتقوى به عليهم، فظفر أولاده بالكتاب، فلم ينفذوه، وخافوا أباهم وحذروه، فحملهم خوفه على نقله إلى قلعة كواشى.
واتصل ذلك بحمدان، فعظم عليه، وصار عدواً مبايناً، وكان أشجعهم، وكان قد سار عند وفاة عمه سيف الدولة من الرحبة إلى الرقة فملكها، وسار إلى نصيبين وجمع من أطاعه، وطالب إخوته بالإفراج عن والده وإعادته إلى منزله، فسار أبو تغلب إليه ليحاربه، فانهزم حمدان قبل اللقاء إلى الرقة، فنازله أبو تغلب وحصره ثم اصطلحا عن دخن وعاد كل واحد منهما إلى موضعه.
وعاش ناصر الدولة الحسن بن أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان بن حمدون التغلبي شهوراً، ومات في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، ودفن بتل توبة، شرقي الموصل، وقبض أبو تغلب أملاك أخيه حمدان، وسير أخاه أبا البركات إلى حمدان، فلما قرب من الرحبة استأمن إليه كثير من أصحاب حمدان، فانهزم حينئذ، وقصد العراق مستأمناً إلى بختيار، فوصل بغداد في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فأكرمه بختيار وعظمه، وحمل إليه هدية كثيرة جليلة المقدار، ومعها كل ما يحتاج إليه مثله، وأرسل إلى أبي تغلب النقيب أبا أحمد الموسوي والد الشريف الرضي في الصلح مع أخيه، فاصطلحا، وعاد حمدان إلى الرحبة، وكان مسيره من بغداد في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة.
فلما سمع أبو البركات بمسير أخيه حمدان على هذه الصورة فارق الرحبة، ودخلها حمدان، وراسله أخوه أبو تغلب في الاجتماع به، فامتنع من ذلك، فعاد أبو تغلب وسير إليه أبا البركات، فلما علم حمدان بذلك فارقها، فاستولى أبو البركات عليها، واستناب بها من يحفظها في طائفة من الجيش، وعاد إلى الرقة ثم منها إلى عربان.
فلما سمع حمدان بعوده عنها، وكان ببرية تدمر، عاد إليها في شعبان، فوافاها ليلاً، فأصعد جماعة من غلمانه السور، وفتحوا له باب البلد فدخله، ولا يعلم من به من الجند بذلك، فلما صار في البلد وأصبح أمر بضرب البوق، فبادر من بالرحبة من الجند منقطعين يظنون أن صوت البوق من خارج البلد، وكل من وصل إلى حمدان أسره، حتى أخذهم جميعهم، فقتل بعضاً واستبقى بعضاً، فلما سمع أبو البركات بذلك عاد إلى قرقيسيا، واجتمع هو وأخوه حمدان منفردين، فلم يستقر بينهما قاعدة، فقال أبو البركات لحمدان: أنا أعود إلى عربان، وأرسل إلى أبي تغلب لعله يجيب إلى ما تلتمسه منه.
فسار عائداً إلى عربان، وعبر حمدان الفرات من مخاضة بها، وسار في أثر أخيه أبي البركات، فأدركه بعربان وهو آمن، فلقيهم أبو البركات بغير جنة ولا سلاح، فقاتلهم، واشتد القتال بينهم، وحمل أبو البركات بنفسه في وسطهم، فضربه أخوه حمدان فألقاه وأخذه أسيراً، فمات من يومه، وهو ثالث رمضان، فحمل في تابوت إلى الموصل، ودفن بتل توبة عند أبيه.
وتجهز أبو تغلب ليسير إلى حمدان، وقدم بين يديه أخاه أبا الفوارس محمداً إلى نصيبين، فلما وصلها كاتب أخاه حمدان ومالأ على أبي تغلب، فبلغ الخبر أبا تغلب، فأرسل إليه يستدعيه ليزيد في إقطاعه، فلما حضر عنده قبض عليه وسيره إلى قلعة كواشى، من بلد الموصل، وأخذ أمواله، وكانت قيمتها خمسمائة ألف دينار.
فلما قبض عليه سار إبراهيم والحسين ابنا ناصر الدولة إلى أخيهما حمدان، خوفاً من أبي تغلب، فاجتمعا معه، وساروا إلى سنجار، فسار أبو تغلب إليهم من الموصل في شهر رمضان سنة ستين وثلاثمائة، ولم يكن لهم بلقائه طاقة، فراسله أخواه إبراهيم والحسين يطلبان العود إليه خديعة منهما ليؤمنهما ويفتكا به، فأجابهما إلى ذلك، فهربا إليه، وتبعهما كثير من أصحاب حمدان، فعاد حمدان حينئذ من سنجار إلى عربان، واستأمن إلى أبي تغلب، صاحب حمدان، وأطلعه على حيلة أخويه عليه، وهما إبراهيم والحسين، فأراد القبض عليهما، فحذرا وهربا.
ثم إن نما غلام حمدان ونائبه بالرحبة أخذ جميع ماله بها وهرب إلى أصحاب أبي تغلب بحران، وكانوا مع صاحبه سلامة البرقعيدي، فاضطر حمدان إلى العود إلى الرحبة، وسار أبو تغلب إلى قرقيسيا، وأرسل سرية عبروا الفرات وكبسوا حمدان بالرحبة، وهو لا يشعر، فنجا هارباً، واستولى أبو تغلب عليها، وعمر سورها، وعاد إلى الموصل، ودخلها في ذي الحجة سنة ستين وثلاثمائة.
وسار حمدان إلى بغداد، فدخلها آخر ذي الحجة سنة ستين ملتجئاً إلى بختيار معه أخوه إبراهيم، وكان أخوهما الحسين قد عاد إلى أخيه أبي تغلب مستأمناً؛ وحمل بختيار إلى حمدان وأخيه إبراهيم هدايا جليلة كثيرة المقدار، وأكرمهما واحترمهما.

.ذكر ما فعله الروم بالشام والجزيرة:

وفي هذه السنة دخل ملك الروم الشام، ولم يمنعه أحد، ولا قاتله، فسار في البلاد إلى طرابلس، وأحرق بلدها، وحصر قلعة عرقة، فملكها ونهبها وسبى من فيها.
وكان صاحب طرابلس قد أخرجه أهلها لشدة ظلمه، فقصد عرقة، فأخذه الروم وجميع ماله، وكان كثيراً.
وقصد ملك الروم حمص، وكان أهلها قد انتقلوا عنها وأخلوها، فأحرقها ملك الروم ورجع إلى بلدان الساحل فأتى عليها نهباً وتخريباً، وملك ثمانية عشر منبراً، فأما القرى فكثير لا يحصى، وأقام في الشام شهرين يقصد أي موضع شاء، ويخرب ما شاء، ولا يمنعه أحد إلا أن بعض العرب كانوا يغيرون على أطرافهم، فأتاه جماعة منهم وتنصروا وكادوا المسلمين من العرب وغيرهم، فامتنعت العرب من قصدهم، وصار للروم الهيبة العظيمة في قلوب المسلمين، فأراد أن يحضر إنطاكية وحلب، فبلغه أن أهلها قد أعدوا الذخائر والسلاح وما يحتاجون إليه، فامتنع من ذلك وعاد ومعه من السبي نحو مائة ألف رأس، ولم يأخذ إلا الصبيان، والصبايا، والشبان، فأما الكهول، والشيوخ، والعجائز، فمنهم من قتله، ومنهم من أطلقه.
وكان بحلب قرعويه، غلام سيف الدولة بن حمدان، وقد أخرج أبا المعالي بن سيف الدولة منها، على ما نذكره، فصانع الروم عليها، فعادوا إلى بلادهم، فقيل كان سبب عودهم كثرة الأمراض والموت، وقيل ضجروا من طول السفر والغيبة عن بلادهم، فعادوا على عزم العود.
وير ملك الروم سرية كثيرة إلى الجزيرة، فبلغوا كفر توثا، ونهبوا وسبوا وأحرقوا وعادوا، ولم يكن من أبي تغلب بن حمدان في ذلك نكير ولا أثر.

.ذكر استيلاء قرعويه على حلب وإخراج أبي المعالي بن حمدان منها:

في هذه السنة أيضاً استولى قرعويه غلام سيف الدولة بن حمدان على حلب، وأخرج منها أبا المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان، فسار أبو المعالي إلى حران، فمنعه أهلها من الدخول إليهم، فطلب منهم أن يأذنوا لأصحابه أن يدخلوا فيتزودوا منها يومين فأذنوا لهم، ودخل إلى والدته بميافارقين، وهي ابنة سعيد بن حمدان، وتفرق عنه أكثر أصحابه ومضوا إلى أبي تغلب بن حمدان.
فلما وصل إلى والدته بلغها أن غلمانه وكتابه قد عملوا على القبض عليها وحبسها، كما فعل أبو تغلب بأبيه ناصر الدولة، فأغلقت أبواب المدينة ومنعت ابنها من دخولها ثلاثة أيام، حتى أبعدت من تحب إبعاده، واستوثقت لنفسها، وأذنت له ولمن بقي معه في دخول البلد، وأطلقت لهم الأرزاق، وبقيت حران لا أمير عليها، ولكن الخطبة فيها لأبي المعالي بن سيف الدولة، وفيها جماعة من مقدمي أهلها يحكمون فيها، ويصلحون من أمور الناس.
ثم إن أبا المعالي عبر الفرات إلى الشام، وقصد حماة فأقام بها، على ما نذكره سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة.